في المرحلة الإبتدائية و في أحد دروس مادة التربية الإجتماعية كانت المدرس يشرح لنا عن الفرق بين الحياة في الريف و المدينة و عن ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة و أتذكر في ذلك الوقت أنها بينت لنا أن الريف هو المكان الهادئ حيث الأعشاب النضرة و العصافير و الورود و الأشجار و الهدوء و الأنهار و و و
أما المدينة فهي المكان المزدحم الملوث حيث الضجيج و الصخب و الإزدحام و ألخ
و عندما سألتنا المدرسة أيهما تفضلون الإقامة في الريف أو المدينة أجاب الطلاب بأن الريف بالطبع أفضل و لكن الجميع تعجبو عندما كان الجواب الصحيح هو المدينة؟
بقيت تلك الفكرة موجودة لدي لفترة طويلة وقتها فلماذا يفضل الناس الضوضاء و الصخب و التلوث و الازدحام...على السكن في الريف الجميل البديع لعل الإنسان يحب الشقاء لنفسه أو يركد على تعتيره كما يقال
و لكن مع الأيام بدأت أفهم لماذا قال لنا المدرس أن السكن في المدينة أفضل من السكن في الريف و اليوم أعيش الحلقة المفقودة التي كانت المدرسة تتحدث عنها بعدما كبرت و تزوجت و اضطرت مثل معظم الشباب الذي يبحث عن السترة إلى استئجار بيت في أحد أرياف مدينة دمشق و هنا أدركت تماما ما هو الريف لدينا و هو بالتأكيد ليس الإستيقاظ على زقزقة العصفير و الأزهار الجميلة و الهواء الطلق و ما شابه ربما كان كلامه صحيحا
الريف عندنا هو الشوارع (إن صح التعبير) الترابية التي إن عبدتها البلدية بعد طول انتظار عادت لتحفرها من جديد بعد أسبوع على أكثر تقدير لإجراء الإصلاحات التي لا تنتهي أبدا أما المواطن الصالح فعليه أن يشق طريقه عبر الطين و الترع في الشتاء و عبر الغبار و الأتربة في الصيف و ما أن يصل إلى مقعده في الميكرو باص حتى يشعر بنفسه كمن يعتلي صهوة جواد من كثرة المطبات و تنوعها في الحجم و العمق فيعود بذاكرته إلى أيام الخيول و الجمال و السيوف و هو في طريقه إلى العمل معفرا بالتراب أو الطين تبعا لفصل السنة
و سوف يقدر كثيرا كل من يزوره لأنه تعلم تماما العناء الذي كابده للوصول إلى بيته و بذلك سيعرف أصدقائه الحقيقين من أصدقاء المصلحة و بالطبع سيكون عليه أن ينصح صديقه بالذهاب مبكرا قبل أن تنقطع المواصلات
الريف هو الإنقطاع الطويل المتكرر في التيار الكهربائي بسبب الصيانة و الإصلاح أو التقنين لأنو نحن مو ناقصنا غير التقنين أما المياه فهي للغسيل فقط و زيادة و هناك إشاعات تظهر بشكل دوري لزرع الأمل في نفوس المواطنين بأنه هناك خطة لمد مياه الشرب يوما ما و عالوعد يا كمون و بالنسبة لمياه الشرب فسوف تضطر أسبوعيا للنزول مرة أو مرتين لتعبئة مياه الشرب بالبيدونات مما يوفر عليك تكلفة التسجيل في أي نادي رياضي لحمل الأثقال أو ماشابه و خاصة إذا كنت تسكن في منزل طابقي فسوف تربي عضلاتك في زمن قياسي و بتكلفة زهيدة
أما الهاتف فهيهات هيهات اللهم إن لم تكن على صلة بسين و عين و صاد أو سيكون عليك البحث عمن تدفع له مبلغ و قدره لمد خط هوائي إلى البيت و يا بتصيب يا بتخيب و بالنسبة لل ADSL فعفوا نحن في الريف نقاطع كل ما يأتي من الغرب فالقضية قضية مبدأ و لكن لا مانع من أن نقرأ عن مد خطوطها في المدينة من حين لآخر
الريف هو الاستيقاط قبل ساعة و نصف أو ساعتين من الدوام بسبب شح المواصلات و لكن ليس على زقزقة العصافير كما شرحت المدرسة و إنما على صوت أحد المتورات أو الطرطيرات أو الحفريات (و ما أكثرها) فيهرب النوم من عينيك تماما لتذهب بكل نشاط إلى مكان عملك أما إن كنت من أصحاب الحظ السعيد و كنت من الذين تغيرت خطوط النقل لديهم فستيقظ قبل نصف ساعة من الوقت السابق و هذا من حسن حظك فكما يقول المثل نام بكير و فيق بكير و شوف الصحة كيف بتصير
السؤال الذي تتمحور حوله هذه المقالة هو ألا يجدر بنا أن نولي المرافق العامة في الأرياف مزيدا من الإهتمام و العناية للحد من ظاهرة الهجرة إلى المدينة التي تعتبر أم المشاكل لما تتسبب به من إزحامات و غلاء في أسعار البيوت في المدينة و نقص الأيادي العاملة الزراعية و غيرها
هذه القصة على مغالاتها تبين أن أي حل لا ينطلق من تحليل الأسباب الكامنة وراء المشكلة لا يمكن أن يحل المشكلة و نحن ليس لنا إلا أن نضع تساؤلاتنا بين يدي المسؤولين الذين يملكون الحل و ننتظر حتى يأتي الفرج القريب